طقوس القهوة في دمشق
على رغم اختراق أمواج العولمة وانفتاح المشهد السوري اليومي في شكل متسارع، إلا أن هناك معالم لا يمكن تخيل الحياة السورية اليومية من دونها. فتوأما الصباح الدمشقي هما صوت فيروز ورائحة القهوة المنبعثة من الحارات والبيوت التي تتوسطها «بحرة» (نافورة) وحدائق مظللة بالياسمين. وتجمع قهوة الصباح الأسرة مدغدغة برائحتها حياة تلك الحارات وساكنيها، فيصعب أن تجد في ساعات الصباح الأولى مشهداً تغيب عنه القهوة التركية، من البيوت إلى الدوائر الرسمية مروراً بالجامعات والشركات وحتى وسائل النقل أحياناً.
وبالنسبة الى السوريين، فإن طريقة تحضير القهوة و» تحميصها» وكمية الهال المضافة إليها تعالله يسامحك نوعيتها. فهم يميزون بين نوعين: الشقراء والسمراء، تبعاً لدرجة تحميص البن ونسبة الهال. واصطلح المجتمع على أن تكون السمراء من نصيب المدخنين والمثقفين ومحدودي الدخل، بينما الشقراء للعائلات الميسورة. وتبقى القهوة أساس العلاقات الاجتماعية وآداب الضيافة، فمن المعيب أن يخرج الضيف قبل أن يشرب قهوته، مهما سبقها من ضيافات. وإذا شرب الضيف قهوته فذلك يعني أن سؤاله مجاب وطلبه مقضي.
ويبقى تقديم القهوة في المخيلة الشعبية الحجة التي تعرف فيها الفتاة عن نفسها لطالبي يدها، فبطريقة تقديمها للقهوة تعكس طبقتها الاجتماعية، كما تعالله يسامحك طريقة شرب القهوة خلفيات الضيوف وعاداتهم الاجتماعية.
وللمقاهي نصيبها من التمايز في الفسيفساء السورية، فالقديم منها كمقهى «الهافانا» التاريخي الذي كان معقل التيارات السياسية والثقافية وملاذ الشعراء والمثقفين واليساريين السوريين، ما زال يقدم قهوته نفسها منذ ما يزيد على خمسين عاماً.
وتفخر تلك المقاهي الدمشقية القديمة على ضفاف نهر بردى، بأنها على رغم تقدم السن، وعجزها عن تقديم الحداثة والموضة ما زالت قادرة على جذب العديد من الشباب ليحتسوا قهوتها التقليدية في أجواء من السمر على وقع خرير بردى وظلال صفصافه. ويختزن فنجان القهوة فيها احاديث العشاق وأسرارهم وأشجانهم وهم يقصدونها هرباً من عيون المدينة وتحفظ أهلها، ويستسيغون في ذلك الفنجان أعذب الطعم واللحظات.
أما القهوة العربية المرّة، الغنية برائحة الهال والتي تستخرج من أعماق المهباج على أنغام قصص الماضي ودفء منقل الحطب فهي سيدة المضافات في المناسبات والأعياد، وخصوصاً في الأرياف والقرى، حيث ينحصر نصيب القهوة التركية في تجمعات الصباح، وسهرات الدراسة والأصحاب، إضافة الى بقية المشروبات التقليدية كالشاي والمتة.
وبينما يزداد الإقبال على المقاهي الحديثة في الأماكن الراقية والغربية الطراز والمشروبات، فإن معظم الرواد هم من الشريحة ذات الدخل المرتفع من الشباب والفتيات والمراهقين، وهي تقدم لهؤلاء نسخة جديدة وعصرية من الكافيين والموسيقى المصاحبة له وصورة جديدة ومحببة للمقاهي واللقاءات. وفي محاولة للخروج من تقاليد الجيل القديم وطقوسه ترى هؤلاء الشباب يتخذون من مشروبات الطاقة والكولا والشاي المثلج نديماً يرافقهم ويغنيهم عن القهوة والصورة النمطية المرتبطة بها.
وعلى رغم انتشار بعض الماركات الأجنبية والخلطات الحديثة للقهوة ومشتقاتها، إلا ان القهوة التقليدية تبقى هي الراسخة في ذاكرة السوريين وعاداتهم اليومية، وحتى في المطاعم والصالات وأخيراً مقاهي الإنترنت.
فقد بات من المألوف رؤية تلك الآلات التي تعد القهوة الجاهزة بنكهات وخلطات مختلفة، إلا أن الطلب غالباً ما يكون على ركوة القهوة التركية التقليدية، فهي وحدها تعيد دفء الماضي وتفتح آفاق الأفكار المتعبة وتعدل المزاج.